سورة الفتح - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفتح)


        


{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)}
بيان لفساد ما قاله المنافقون بعد إنزال الله السكينة على رسوله وعلى المؤمنين ووقوفهم عند ما أمروا به من عدم الإقبال على القتال وذلك قولهم ما دخلنا المسجد الحرام ولا حلقنا ولا قصرنا حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أن المؤمنين يدخلون مكة ويتمون الحج ولم يعين له وقتاً فقص رؤياه على المؤمنين، فقطعوا بأن الأمر كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وظنوا أن الدخول يكون عام الحديبية، والله أعلم أنه لا يكون إلا عام الفتح فلما صالحوا ورجعوا قال المنافقون استهزاء ما دخلنا ولا حلقنا فقال تعالى: {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق} وتعدية صدق إلى مفعولين يحتمل أن يكون بنفسه، وكونه من الأفعال التي تتعدى إلى المفعولين ككلمة جعل وخلق، ويحتمل أن يقال عدى إلى الرؤيا بحرف تقديره صدق الله رسوله في الرؤيا، وعلى الأول معناه جعلها واقعة بين صدق وعده إذ وقع الموعود به وأتى به، وعلى الثاني معناه ما أراه الله لم يكذب فيه، وعلى هذا فيحتمل أن يكون رأى في منامه أن الله تعالى يقول ستدخلون المسجد الحرام فيكون قوله: {صَدَقَ} ظاهراً لأن استعمال الصدق في الكلام ظاهر، ويحتمل أن يكون عليه الصلاة والسلام رأى أنه يدخل المسجد فيكون قوله: {صَدَقَ الله} معناه أنه أتى بما يحقق المنام ويدل على كونه صادقاً يقال صدقني سن بكره مثلاً وفيما إذا حقق الأمر الذي يريه من نفسه، مأخوذ من الإبل إذا قيل له هدع سكن فحقق كونه من صغار الإبل، فإن هدع كلمة يسكن بها صغار الإبل وقوله تعالى: {بالحق} قال الزمخشري هو حال أو قسم أو صفة صدق، وعلى كونه حال تقديره صدقه الرؤيا ملتبسة بالحق وعلى تقدير كونه صفة تقديره صدقه صدقاً ملتبساً بالحق وعلى تقدير كونه قسماً، إما أن يكون قسماً بالله فإن الحق من أسمائه، وإما أن يكون قسماً بالحق الذي هو نقيض الباطل هذا ما قاله، ويحتمل أن يقال (إن) فيه وجهين آخرين: أحدهما: أن يقال فيه تقديم تأخير تقديره: صدق الله رسوله بالحق الرؤيا، أي الرسول الذي هو رسول بالحق وفيه إشارة إلى امتناع الكذب في الرؤيا لأنه لما كان رسولاً بالحق فلا يرى في منامه الباطل والثاني: أن يقال بأن قوله: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام} إن قلنا بأن الحق قسم فأمر اللام ظاهر، وإن لم يقل به فتقديره: لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق، والله لتدخلن، وقوله: والله لتدخلن، جاز أن يكون تفسيراً للرؤيا يعني الرؤيا هي: والله لتدخلن، وعلى هذا تبين أن قوله: {صَدَقَ الله} كان في الكلام لأن الرؤيا كانت كلاماً، ويحتمل أن يكون تحقيقاً لقوله تعالى: {صَدَقَ الله رَسُولَهُ} يعني والله ليقعن الدخول وليظهرن الصدق فلتدخلن ابتداء كلام وقوله تعالى: {إِن شَاءَ الله} فيه وجوه:
أحدها: أنه ذكره تعليماً للعباد الأدب وتأكيداً لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَاء الله} [الكهف: 23، 24] الثاني: هو أن الدخول لما لم يقع عام الحديبية، وكان المؤمنون يريدون الدخول ويأبون الصلح قال: {لَتَدْخُلُنَّ} ولكن لا بجلادتكم ولا بإرادتكم، إنما تدخلون بمشيئة الله تعالى الثالث: هو أن الله تعالى لما قال في الوحي المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم {لَتَدْخُلُنَّ} ذكر أنه بمشيئة الله تعالى، لأن ذلك من الله وعد ليس عليه دين، ولا حق واجب، ومن وعد بشيء لا يحققه إلا بمشيئة الله تعالى وإلا فلا يلزمه به أحد، وإذا كان هذا حال الموعود به في الوحي المنزّل صريحاً في اليقظة فما ظنكم بالوحي بالمنام وهو يحتمل التأويل أكثر مما يحتمله الكلام، فإذا تأخر الدخول لم يستهزئون؟ الرابع: هو أن ذلك تحقيقاً للدخول وذلك لأن أهل مكة قالوا لا تدخلوها إلا بإرادتنا ولا نريد دخولكم في هذه السنة، ونختار دخولكم في السنة القابلة، والمؤمنون أرادوا الدخول في عامهم ولم يقع. فكان لقائل أن يقول بقي الأمر موقوفاً على مشيئة أهل مكة إن أرادوا في السنة الآتية يتركوننا ندخلها وإن كرهوا لا ندخلها فقال لا تشترط إرادتهم ومشيئتهم، بل تمام الشرط بمشيئة الله، وقوله: {مُحَلّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تخافون} إشارة إلى أنكم تتمون الحج من أوله إلى آخره، فقوله: {لَتَدْخُلُنَّ} إشارة إلى الأول وقوله: {مُحَلِّقِينَ} إشارة إلى الآخر، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: {مُحَلّقِينَ} حال الداخلين والداخل لا يكون الآن محرماً، والمحرم لا يكون محلقاً، فقوله: {ءَامِنِينَ} ينبئ عن الدوام فيه إلى الحلق فكأنه قال: تدخلونها آمنين متمكنين من أن تتموا الحج محلقين.
المسألة الثانية: قوله تعالى: {لاَ تخافون} أيضاً حال معناه غير خائفين، وذلك حصل بقوله تعالى: {ءَامِنِينَ} فما الفائدة في إعادتها؟ نقول: فيه بيان كمال الأمن، وذلك لأن بعد الحلق يخرج الإنسان عن الإحرام فلا يحرم عليه القتال، وكان عند أهل مكة يحرم قتال من أحرم ومن دخل الحرم فقال: تدخلون آمنين، وتحلقون، ويبقى أمنكم بعد خروجكم عن الإحرام، وقوله تعالى: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ} أي من المصلحة وكون دخولكم في سنتكم سبباً لوطء المؤمنين والمؤمنات أو {فَعَلِمَ} للتعقيب، {فَعَلِمَ} وقع عقيب ماذا؟ نقول إن قلنا المراد من {فَعَلِمَ} وقت الدخول فهو عقيب صدق، وإن قلنا المراد {فَعَلِمَ} المصلحة فالمعنى علم الوقوع والشهادة لا علم الغيب، والتقدير يعني حصلت المصلحة في العام القابل {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ} من المصلحة المتجددة {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} إما صلح الحديبية، وإما فتح خيبر، وقد ذكرناه وقوله تعالى: {وَكَانَ الله بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً} يدفع وهم حدوث علمه من قوله: {فَعَلِمَ} وذلك لأن قوله: {وَكَانَ الله بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً} يفيد سبق علمه العام لكل علم محدث.


{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)}
ثم قال تعالى: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ وكفى بالله شَهِيداً * مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكفار رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً}.
تأكيداً لبيان صدق الله في رسوله الرؤيا، وذلك لأنه لما كان مرسلاً لرسوله ليهدي، لا يريد ما لا يكون مهدياً للناس فيظهر خلافه، فيقع ذلك سبباً للضلال، ويحتمل وجوهاً أقوى من ذلك، وهو أن الرؤيا بحيث توافق الواقع تقع لغير الرسل، لكن رؤية الأشياء قبل وقوعها في اليقظة لا تقع لكل أحد فقال تعالى: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى} وحكى له ما سيكون في اليقظة، ولا يبعد من أن يريه في المنام ما يقع فلا استبعاد في صدق رؤياه، وفيها أيضاً بيان وقوع الفتح ودخول مكة بقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ} أي من يقويه على الأديان لا يستبعد منه فتح مكة له و(الهدى) يحتمل أن يكون هو القرآن كما قال تعالى: {أُنزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لّلنَّاسِ} [البقرة: 185] وعلى هذا {دِينَ الحق} هو ما فيه من الأصول والفروع، ويحتمل أن يكون الهدى هو المعجزة أي أرسله بالحق أي مع الحق إشارة إلى ما شرع، ويحتمل أن يكون الهدى هو الأصول و{دِينَ الحق} هو الأحكام، وذلك لأن من الرسل من لم يكن له أحكام بل بين الأصول فحسب، والألف واللام في الهدى يحتمل أن تكون للاستغراق أي كل ما هو هدى، ويحتمل أن تكون للعهد وهو قوله تعالى: {ذلك هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء} [الزمر: 23] وهو إما القرآن لقوله تعالى: {كتابا متشابها مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ} [الزمر: 23] إلى أن قال: {ذلك هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء} [الزمر: 23] وإما ما اتفق عليه الرسل لقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] والكل من باب واحد لأن ما في القرآن موافق لما اتفق عليه الأنبياء وقوله تعالى: {وَدِينِ الحق} يحتمل وجوهاً: أحدها: أن يكون الحق اسم الله تعالى فيكون كأنه قال: بالهدى ودين الله.
وثانيها: أن يكون الحق نقيض الباطل فيكون كأنه قال: ودين الأمر الحق.
وثالثها: أن يكون المراد به الانقياد إلى الحق والتزامه {لِيُظْهِرَهُ} أي أرسله بالهدى وهو المعجز على أحد الوجوه {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ} أي جنس الدين، فينسخ الأديان دون دينه، وأكثر المفسرين على أن الهاء في قوله: {لِيُظْهِرَهُ} راجعة إلى الرسول، والأظهر أنه راجع إلى دين الحق أي أرسل الرسول بالدين الحق ليظهره أي ليظهر الدين الحق على الأديان، وعلى هذا فيحتمل أن يكون الفاعل للاظهار هو الله، ويحتمل أن يكون هو النبي أي ليظهر النبي دين الحق، وقوله تعالى: {وكفى بالله شَهِيداً} أي في أنه رسول الله وهذا مما يسلي قلب المؤمنين فإنهم تأذوا من رد الكفار عليهم العهد المكتوب، وقالوا لا نعلم أنه رسول الله فلا تكتبوا محمد رسول الله بل اكتبوا محمد بن عبد الله، فقال تعالى: {وكفى بالله شَهِيداً} في أنه رسول الله، وفيه معنى لطيف وهو أن قول الله مع أنه كاف في كل شيء، لكنه في الرسالة أظهر كفاية، لأن الرسول لا يكون إلا بقول المرسل، فإذا قال ملك هذا رسولي، لو أنكر كل من في الدنيا أنه رسول فلا يفيد إنكارهم فقال تعالى أي خلل في رسالته بإنكارهم مع تصديقي إياه بأنه رسولي، وقوله: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله} فيه وجوه:
أحدها: خبر مبتدأ محذوف تقديره هو محمد الذي سبق ذكره بقوله: {أَرْسَلَ رَسُولَهُ} ورسول الله عطف بيان.
وثانيها: أن محمداً مبتدأ خبره رسول الله وهذا تأكيد لما تقدم لأنه لما قال: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} ولا تتوقف رسالته إلا على شهادته، وقد شهد له بها محمد رسول الله من غير نكير.
وثالثها: وهو مستنبط وهو أن يقال: {مُحَمَّدٌ} مبتدأ و{رَسُولِ الله} عطف بيان سيق للمدح لا للتمييز {والذين مَعَهُ} عطف على محمد، وقوله: {أَشِدَّاءُ} خبره، كأنه تعالى قال: {والذين مَعَهُ} جميعهم {أَشِدَّاءُ عَلَى الكفار رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} لأن وصف الشدة والرحمة وجد في جميعهم، أما في المؤمنين فكما في قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] وأما في حق النبي صلى الله عليه وسلم فكما في قوله: {واغلظ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] وقال في حقه {بالمؤمنين رَءوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] وعلى هذا قوله: {تَرَاهُمْ} لا يكون خطاباً مع النبي صلى الله عليه وسلم بل يكون عاماً أخرج مخرج الخطاب تقديره أيها السامع كائناً من كان، كما قلنا إن الواعظ يقول انتبه قبل أن يقع الانتباه ولا يريد به واحداً بعينه، وقوله تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ الله وَرِضْوَاناً} لتمييز ركوعهم وسجودهم عن ركوع الكفار وسجودهم، وركوع المرائي وسجوده، فإنه لا يبتغي به ذلك. وفيه إشارة إلى معنى لطيف وهو أن الله تعالى قال الراكعون والساجدون {لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} [فاطر: 30] وقال الراكع يبتغي الفضل ولم يذكر الأجر لأن الله تعالى إذا قال لكم أجر كان ذلك منه تفضلاً، وإشارة إلى أن عملكم جاء على ما طلب الله منكم، لأن الأجرة لا تستحق إلا على العمل الموافق للطلب من المالك، والمؤمن إذا قال أنا أبتغي فضلك يكون منه اعترافاً بالتقصير فقال: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ الله} ولم يقل أجراً.
وقوله تعالى: {سيماهم فِي وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السجود} فيه وجهان:
أحدهما: أن ذلك يوم القيامة كما قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] وقال تعالى: {نُورُهُمْ يسعى} [التحريم: 8] وعلى هذا فنقول نورهم في وجوههم بسبب توجههم نحو الحق كما قال إبراهيم عليه السلام: {إِنّى وَجَّهْتُ وجهي للذي فطر السموات والارض} [الأنعام: 79] ومن يحاذي الشمس يقع شعاعها على وجهه، فيتبين على وجهه النور منبسطاً، مع أن الشمس لها نور عارضي يقبل الزوال، والله نور السموات والأرض فمن يتوجه إلى وجهه يظهر في وجهه نور يبهر الأنوار وثانيهما: أن ذلك في الدنيا وفيه وجهان:
أحدهما: أن المراد ما يظهر في الجباه بسبب كثرة السجود والثاني: ما يظهره الله تعالى في وجوه الساجدين ليلاً من الحسن نهاراً، وهذا محقق لمن يعقل فإن رجلين يسهران بالليل أحدهما قد اشتغل بالشراب واللعب والآخر قد اشتغل بالصلاة والقراءة واستفادة العلم فكل أحد في اليوم الثاني يفرق بين الساهر في الشرب واللعب، وبين الساهر في الذكر والشكر.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة} فيه ثلاثة أوجه مذكورة أحدها: أن يكون {ذلك} مبتدأ، و{مَثَلُهُمْ فِي التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل} خبراً له، وقوله تعالى: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} خبراً مبتدأ محذوف تقديره ومثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع.
وثانيها: أن يكون خبر ذلك هو قوله: {مَثَلُهُمْ فِي التوراة} وقوله: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل} مبتدأ وخبره كزرع.
وثالثها: أن يكون ذلك إشارة غير معينة أوضحت بقوله تعالى: {كَزَرْعٍ} كقوله: {ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} [الحجر: 66] وفيه وجه رابع: وهو أن يكون ذلك خبراً له مبتدأ محذوف تقديره هذا الظاهر في وجوههم ذلك يقال ظهر في وجهه أثر الضرب، فنقول أي والله ذلك أي هذا ذلك الظاهر، أو الظاهر الذي تقوله ذلك.
وقوله تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع}.
أي وصفوا في الكتابين به ومثلوا بذلك وإنما جعلوا كالزرع لأنه أول ما يخرج يكون ضعيفاً وله نمو إلى حد الكمال، فكذلك المؤمنون، والشطء الفرخ و{فَآزَرَهُ} يحتمل أن يكون المراد أخرج الشطء وآزر الشطء، وهو أقوى وأظهر والكلام يتم عند قوله: {يُعْجِبُ الزراع}.
وقوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} أي تنمية الله ذلك ليغيظ أو يكون الفعل المعلل هو.
وقوله تعالى: {وَعَدَ الله الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي وعد ليغيظ بهم الكفار يقال رغماً لأنفك أنعم عليه.
وقوله تعالى: {مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} لبيان الجنس لا للتبعيض، ويحتمل أن يقال هو للتبعيض، ومعناه: ليغيظ الكفار والذين آمنوا من الكفار لهم الأجر العظيم، والعظيم والمغفرة قد تقدم مراراً والله تعالى أعلم، وهاهنا لطيفة وهو أنه تعالى قال في حق الراكعين والساجدين إنهم {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ الله} وقال: لهم أجر ولم يقل لهم ما يطلبونه من ذلك الفضل وذلك لأن المؤمن عند العمل لم يلتفت إلى عمله ولم يجعل له أجراً يعتد به، فقال لا أبتغي إلا فضلك، فإن عملي نزر لا يكون له أجر والله تعالى آتاه ما آتاه من الفضل وسماه أجراً إشارة إلى قبول عمله ووقوعه الموقع وعدم كونه عند الله نزراً لا يستحق عليه المؤمن أجراً، وقد علم بما ذكرنا مراراً أن قوله: {وَعَدَ الله الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} لبيان ترتب المغفرة على الإيمان فإن كل مؤمن يغفر له كما قال تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] والأجر العظيم على العمل الصالح، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: تمّ تفسير هذه السورة يوم الخميس السابع عشر من شهر ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8